
حُسن اللغة من حُسن مدرّسها ـ دور الأستاذ
حُسن اللغة من حُسن مدرّسها
كيف شغفتني اللغة الإنجليزية حبّا
لطالما كانت اللغتان العربية والفرنسية لغتاي المفضلتين. كنت أحب العربية لأن عودي شب عليها والفرنسية لأن أذني ألفتها ودأب لساني على استخدامها وكان دور الأستاذ الأول في ترسيخ حبي لها مفصليّاً. من شدة حبي لهاتين اللغتين لم أكن أرى سواهما حتى لما أتتني يوما ابنة الجارة تحدّثني عن لغة جديدة أخذت تتشربّها حديثا، وتتوعدني بلسان صعب مبنا عصي معنا، رأيت في ذلك حجة كي أرفض هذه اللغة وأجاهر باستهجاني لها بل إنني غبت عن أول درس احتجاجا على هذا اللسان الجديد الذي يريد أن يتسلل بين ثنايا فكري ويتغلغل في ثقافتي من دون سابق إنذار ولا استئذان. غبت عن درسي الأول وكلّي فخر بزوبعتي التي قلبت بها فنجان فراستي اللغوية ولم أحرك في اللغة الإنجليزية ساكنا. لكن هيهات أن تدوم الزوبعة وهي التي تولد وتموت أحيانا من دون أن يلقي لها أحد بالا.
بعد أسبوع من تلك الثورة جاء موعد الحصة الثانية، جلست على مضض وكلي عزم على أن أتجاهل ما يقوله أستاذ المادة وأن أفحمه بصمتي. بينما أنا جالسة إلى طاولتي أتجاذب أطراف حديث لا يسمن ولا يغني من جوع أطلت علينا شابة حسناء ممشوقة القد لفتني ما كانت ترتديه. كانت ترتدي بذلة صفراء مقلمة وشعرها الفاحم منسدل على كتفيها كليلة اكتمل فيها البدر. لم تكن تضع أي مساحيق تجميل ولم تكن بحاجة لها. هيبتها وحظورها الطاغي يجعل الناظر إليها يصغي لما تقوله ويجيب بالسمع والطاعة. دخلت الحسناء علينا فصمت الجميع، أوليس الصمت في حرم الجمال جمال؟ على رأي نزار. طلبت منا أن نفتح الكتاب على الصفحة العاشرة وأن نعيد قراءة حروف الأبجدية الإنجليزية قراءة صامتة. طفقت أستذكر ما علمتني إياه تلك الجارة التي اتضح لي فيما بعد أنها لم تكن تفقه في لغة شيكسبير شيئا.
وما كان من أستاذتنا إلا أن بدأت تخط الحروف على السبورة. بعد أن فرغت من ذلك التفتت إلينا وقالت ردّدوا خلفي الحروف بصوت عال. كذلك فعلنا. كانت الحروف سهلة، مختلف نطقها بعص الشيء عن اللغة الفرنسية لكن الاختلاف لا يفسد للسان فضيلة. مضت الحصة ونحن نتمرن على نطق الحروف وبعض الأسماء التي تبدأ بتلك الحروف. لما عدت إلى المنزل اعتكفت في غرفتي وبدأت أراجع درس اللغة الانجليزية دون سواه حرفا حرفا وصوتا صوتا. في الحصة الموالية بدأنا نتعلم الأفعال ومزيدا من الأسماء وكم كان مضحكا لي ولزملائي نطق اسم البطاطا والطماطم باللغة الإنجليزية. ولعل كل من تعلم هذه اللغة قد ضحك أو ابتسم بعد أن نظق هاتين الكلمتين أول مرة.
انتبهت أستاذتي المفضلة أنني أتابع معها الدرس ولا ألتفت لأي شيء آخر ورأت أنني أجيب على كل سؤال تطرحه قبل أن تتمّ تطرحه. فأصبحت تركز في شرحها عليّ وأصبحت أبادلها تركيزها بالاجتهاد أكثر فأكثر. ظهر هذا الاجتهاد في نقاط الفروض والامتحانات التي كانت تخضعنا لها. لم أكن أرضى بأقل من 19 أو 20 من عشرين. ولما لمست شغفي باللغة الإنجليزية أصبحت تعطيني كل صعب من الأسئلة لأنها تدرك يقينا أنني لن يغمض لي جفن قبل أن أجد الإجابة. وكذلك كنت أفعل.
إذا كان رب القسم بالدف ضاربا…
كان دور الأستاذ حاسما في تحديد معالم ميولي الأكاديميّة. على أنني استمريت على هذا الاجتهاد وهذا الالتزام حتى انتقلت إلى الثانوية. وفيها وجدت أستاذا كاد بفتوره ويأسه ولا مبالاته أن يجعلني أكره اللغة الإنجليزية رغم أنني كنت أنجب تلامذته. لكنني من نوع التلاميذ الذي يرقص على أنغام الأستاذ فإن كان نشطا متقدا كنت كذلك وإن كان خاملا غير مبال وجدتني أجلس في حصته كالدمية لا أتحدث إلا إن وجه لي السؤال أو طلب مني شيئا. ذات يوم، بعد فرض كانت آخر همنا نتائجه. دخل علينا الأستاذ، بكتفيه المثقلين بحمل السنين وتعب المهنة، وضع محفظته على المكتب ونظر إلي ثم قال “ما خطبك؟ كنت جيدة فما الذي دهاك؟” انفجر أترابي ضاحكين مستهزئين من توبيخه لي. أما أنا فلم أر في التوبيخ سوى عتاب من أستاذ رأى فيّ بصيصا من أمل ظن أنه تبخر مع مرور السنون.
عدت إلى البيت ذلك اليوم مبتسمة ووضعت كل كتب اللغة الإنجليزية وكراريسها أمامي وقررت مذ ذاك ألا يتفوق عليّ أحد مجددا. وكذلك كان الأمر. أصبحت أساعد زملائي على فهم الدروس وأحلّ التمارين التي تعطى لنا والتي لا تعطى. ولم يعد مزاج الأستاذ أو شغفه بالتدريس يهمني لأنني كنت أملك من الشغف بهذه اللغة ما يكفيني ويفيض عن حاجتي. ظلت تلك حالي حتى حصولي على شهادة البكالوريا وكانت نقطتي في اللغة الإنجليزية 18 وهو أمر نادر الحدوث آنذاك. بعد كبوة صغيرة جعلتني أسيء اختيار تخصصي في الجامعة عدت لأرتمي بين أحضان اللغة الإنجليزية والعربية بفضل اختياري لتخصص الترجمة الذي تفوقت فيه لأنني كنت أستمتع بكل لحظة أصرفها في الدراسة.
ما يحزّ في نفسي ويقض مضجعي بين الفينة والأخرى أنني أذكر ملامح تلك الأستاذة كأنني أراها أمامي لكن ذاكرتي تأبى أن تستحضر اسمها ليس لأن اسمها غير مهم بل لأنها منذ اللحظة الأولى كان اسمها في ذهني “ميس” أو آنسة ولم يسجّل عقلي سواه احتراماً لها وتقديراً لمقامها الرفيع. كذلك دور الأستاذ في حياة كل طالب، إمّا أن يرفعه إلى مصاف المجتهدين وإما أن يخيب سعيه فيمسي من الفاشلين الخائبين.
Responses